التوازن بين حاجات الروح ومطالب الجسد جاء محمّد صلى الله عليه وسلم - بوحي من الله - بدين موافق للفطرة البشرية الطبيعية يراعي حاجات الروح ومطالب الجسد .( فإن لجسدك عليك حقا وإن لنفسك عليك حقا) في عصرنا أكثر ما يختل التوازن فيه طغيان مطالب الجسد على مطالب الروح، فكم ننفق من الوقت والمال في طعامنا وشرابنا وزينتنا في حين يضعف اهتمامنا بمطالب الروح من صلاة خاشعة وتلاوة واعية . في عهد النبي كان هناك تعشق للطاعة والعبادات عند بعض أصحاب النبي إلى درجة إهمال مطالب الجسد من ذلك مثلا : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( يا عبد الله بن عمرو بلغني أنك تصوم النهار وتقوم الليل فلا تفعل فإن لجسدك عليك حقا وإن لنفسك عليك حقا صم وأفطر من كل شهر ثلاثة أيام صوم الدهر ) قال : قلت : يا رسول الله إني أجد قوة قال : ( صم صوم داود صم يوما وأفطر يوما ) قال : وكان عبد الله بن عمرو يقول : يا ليتني كنت أخذت الرخصة . والتوازن بين العناصر الطينية المادية، والعناصر الروحية في الإنسان، هو الأفق الأعلى الذي يدعى لأجل بلوغه، فليس مطلوباً منه أن يتخلى عن مطالبه الروحية ليكون حيواناً، ولا عن مطالبه الجسدية ليكون ملاكاً، فالذي يحاول أن يعطل طاقاته الجسدية الحيوية ويحرم نفسه من رغباتها، ويقتل فيها شهواتها كالذي يحاول أن يعطل طاقاته الروحية، كلاهما يخرج عن سواء فطرته، وكلاهما يدمر نفسه بتدمير جزء من كيانها الأصيل. ومن أجل إيجاد هذا التوازن والحفاظ عليه، يحث الإسلام على مجاهدة النفس، ويدعو إلى تزكيتها، يقول الله عز وجل: {وأما مَنْ خاف مقامَ ربه ونهى النفسَ عن الهوى* فإن الجنة هي المأوى}(7). يقول العالم الفرنسي دوبروكَبي De Brogbi: >إن الخطر يكمن في حضارة موغلة في المادة، فعن هذه الحضارة ذاتها سينتج فقدان التوازن، إذا كانت التربية الروحية عاجزة عن إيجاد التوازن الضروري"
12). وفي مجال التوازن بين الجانب الجسمي والعبادي يقرر الإسلام : سقوط فرض الوضوء عندما يكون استعمال الماء مضرا بالصحة الجسدية ، أو عند ما يؤدي استعمال الماء إلى تأخر شفاء المريض أ أو زيادة مرضه ، فهنا يكون للجانب العبادي فرصة الوفاء بحق الجسد ، والتعويض عنه بالتيمم . وعلى نفس النسق : سقوط فرض الوضوء إذا كان على الماء عدو مخيف أو حيوان مفترس .. وعدم جواز التوضؤ أو الاغتسال إذا كان المرء في حاجة إلى الماء لشربه أو لطبخ طعامه أو شرب دابته .. العبادة دعامة التوازن الإنسان في حاجة دائمة إلى نوعين من الغذاء، غذاء مادي لتلبية مطالبه الجسدية، وغذاء روحي لتبية مطالبه الروحية، وبما أن الجسد من الأرض فغذاؤه من طعام وشراب من عناصر الأرض، وبما أن الروح من نور الله فغذاؤه كذلك من نور الله وروحه. هذا الغذاء النوراني الروحاني قد أنزله الله تعالى إلى الناس على يد أنبيائه. وقال: {يا أيها الناس قد جاءكم برهانٌ من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبينا}(14). فهذا النور الذي جاء من عند الله، وهذا الروح الذي أوحاه الى رسوله، صلى الله عليه وسلم، هو الغذاء الروحي الذي يحفظ للإنسان التوازن في حياته. ولأهمية هذ ا الغذاء الروحي في حياة الإنسان، تولى الله ـ سبحانه ـ ورسوله وضع نظامه، فحدد مقاديره الضرورية التي لايجوز أن ينقص منها شيء، وفرض الله تعالى على الناس فرائض وحدَّ حدوداً، ونهى عن تضييع شيء منها. العبادات التي فرضها الله تعالى من صلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ وحجٍّ، وأقامها على أساس توحيده، وجعلها أركاناًًً وقواعد للإسلام، هي هذا النظام الحكيم الذي وضعه لتغذية الروح وتزكية النفس. ونوَّع الله تعالى العبادات لتكون غذاء روحياًً متنوعاً، ولكل نوع منافعه وفوائده التي تلبي نوعاًًمعيناً من مطالب الروح والقلب. وسنحاول في هذه الفقرة أن نبين ـ على قدر الاستطاعة ـ فضل العبادة في تهذيب الانفعالات الإنسانية اعتماداً على نصوص من القرآن والحديث وعلى أقوال العلماء. يقول الله عز وجل : {إن الإنسان خُلق هلوعا ً* إذا مسه الشر جزوعا ًً*و إذا مسه الخير منوعاًً* إلا المصلين * الذين هم على صلاتهم دائمون* والذين في أموالهم حق معلوم* للسائل والمحروم* والذين يصدقون بيوم الدين* والذين هم من عذاب ربهم مشفقون* إن عذاب ربهم غيرمأمون* والذين هو لفروجهم حافظون* إلا على أزواجهم أوما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين* فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون* والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون* والذين هم بشهاداتهم قائمون* والذين هم على صلاتهم يحافظون* أولئك في جنات مكرمون}(24). إن من طبيعة النفس الإنسانية أنها لاتطمئن ولاتهدأ إلا بذكر الله والإنابة إليه والأنس بقربه وطاعته. قال الله عز وجل: {الذين آمنوا وتطمئنُّ قلوبهُم بذكرِِ ألا بذكرِ الله تطمئنُّ القلوب}(36). وقال أيضاً: "وههنا سر لطيف، وهو أن الله عز وجل، جعل لكل عضو من أعضاء الإنسان كمالاً، إن لم يحصل له فهو في قلق واضطراب وانزعاج بسبب فقد كماله الذي جعل له<. وليس للانسان من سبيل إلى الطمأنينة الحقة إلابذكر الله ومعرفته وطاعته. قال ابن القيم: >ولايمكن حصول الطمأنينة الحقيقية إلا بالله وبذكره"، فإن طمأنينة القلب سكونه واستقراره بزوال القلق والانزعاج والاضطراب عنه، وهذا لايتأتى بشيء سوى الله تعالى وذكره ألبتة، وماعداه فالطمأنينة إليه غرور"
38). الإنسان مزود بغرائز ودوافع فطرية قوية. والإسلام يعترف صراحة بتلك الدوافع الفطرية، ويدعو إلى تنظيمها وضبطها، والتخفيف من اندفاعها وجموحها، ويعين الإنسان برفق على أن يكون مالكاً لزمامها، ويضع له نظاماً حكيماً لتهذيب نفسه وتزكيتها، ويملأ حياته باهتمامات نبيلة تستنفذ جانباً كبيرا ًمن طاقاته، ويوجه تطلعاته إلى لون آخر من اللذة الروحية أرقى وأسمى من الشهوات المادية المحسوسة. يقول الله عز وجل : {زُيِّنَ للناسِ حبُّ الشهواتِِ من النساءِِ والبنينَ والقناطيِِر المقنطرةِِ من الذَّهبِ والفضةِِ والخيل المسَّومة والأنعامِ والحرثِ ذلك متاع الحياةِ الدنيا والله عنده حسنُ المآب* قل أؤنبئكم بخيرٍ من ذلكم للذين اتَّقَوا عند ربهم جناتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواجٌ مطهَّرة ورضوانُ من اللهِ واللهُ بصيرٌ بالعبادِ} (39). فالشهوات قوية جامحة وإرادة الإنسان ضعيفة. حب النساء وحب المال والبنين شهوات، ودوافع غريزية قد تصل في جموحها إلى درجة كافية لأن تدمر حياة الإنسان، حين يباح لها الإشباع بلا قيود ولاحدود. الجانب السيء من الحضارة المعاصرة ومن سوء الحظ أن الجانب الروحي من حياة الإنسان لم يحظ في الحضارة المعاصرة إلا بالقليل جداً من العناية. وعلى العكس من ذلك تماماًً بالغت في تقوية الغريزة في الإنسان إلى حد أفقده توازنه وإنسانيته. وقد حذر من خطورة هذه الحضارة المعاصرة عدد من مفكري الغرب أنفسهم. يقول المفكر الفرنسي دوبروكَبى De Brogbi: >إن الخطر يكمن في حضارة موغلة في المادية.. فعن هذه الحضارة ذاتها سينتج فقدان التوازن، إذا كانت تربية الأرواح الموازية لطغيان المادية عاجزة عن إيجاد التوازن الضروري"
44). ويقول لورد سنيل Lord Snell: >لقد بنينا بناء متناسقاً باعتبار مظهره الخارجي (يشير إلى المنجزات المادية للحضارة المعاصرة) لكن أهملنا المطلب الجوهري لعنصر فطري في حياتنا (يقصد الروح) لقد صممنا وزينا ونظفنا الكأس من الخارج، لكن داخله مليء بالعفن.. إننا نستخدم معارفنا المتزايدة في رفاهية الجسد، لكن تركنا الروح في فقر وهزال