من بين الأفكار التي سيكون لها شأن هام بالنسبة لمستقبلنا فكرة توحيد المغرب العربي، وهي فكرة قديمة لها جذور عريقة في التاريخ، ويشهد عليها كم من أثر خلفه أجدادنا منذ أجيال وأجيال، وإنما عاق عن الشروع في تحقيقها بصورة جدية وملموسة الوضع الاستعماري الذي كانت تعيش فيه شمال إفريقيا إلى عهد قريب، وبتحرير آخر جزء من الشمال الذي هو الجزائر سيتسنى لرجال السياسة والاقتصاد أن يدرسوا بكيفية علمية وعملية مسألة توحيد المغرب العربي وأن يخرجوا بها من طور الفكرة المجردة إلى طور الواقع المجسم.
وفكرة توحيد المغرب العربي ليست من تلك الأفكار الساطعة البراقة التي تخلب الإنسان لأول وهلة، بل إنها، على العكس من ذلك، فكرة عملية ضرورية تفرض نفسها شيئا فشيئا مع تقدم الزمان واتساع مسؤوليات دول المغرب العربي كدول حرة مستقلة، لها مركزها في المجتمع الأممي، فقد كانت هذه الدول في الواقع، وهي تكافح ضد الاستعمار، غير متفرغة للتفكير في بناء مستقبلها وفي تخطيط البرامج الواسعة العملية للنهوض بمستواها المادي الفكري، أما وقد أحرزت استقلالها وتسلمت القيادة بيدها، فقد أصبحت تسيطر على مصيرها بنفسها ولوحدها، ومعنى هذا أنها أصبحت تتحمل مسؤوليات جسيمة وتواجه مشاكل عديدة متشعبة، وهذا كاف وحده لأن يدفعها إلى التضامن فيما بينها، والتعاون على تذليل الصعوبات الناجمة وتسوية القضايا المستعصية.
وأهم هذه القضايا هي قضية التخلف العام في سائر الميادين، حقا أن معالجة التخلف لا يقع طفرة، بل يتطلب زمانا ووسائل قد تتوفر وقد لا تتوفر، ولكن مهما كان الزمان وكانت الوسائل فإن العلاج يكون أيسر وأقرب، إذا تضافرت الجهود، وعبئت المواد والوسائل، في نطاق مشترك، بين دول تجمع بينها روابط وثيقة دائمة، وذلك شأن دول المغرب العربي.
على أن مسألة وحدة المغرب العربي لا تنحصر في نطاق محدود بل إنها تعرض لنا في كل ميدان من ميادين الحياة العامة وتواجهنا في سائر المستويات الفكرية.
فإذا وضعناها في المستوى العاطفي الذي هو مستوى الجميع بغض النظر عن التكوين الثقافي، فإنها تلاقي ترحيبا شعبيا حارا وتأييدا إجماعيا، ولربما لا يوجد من يعترض عليها أو ينتقدها. والحقيقة أن وحدة شمال إفريقيا تثير في النفوس نشوة حماسية، لأنها تعود بالذاكرة إلى عهود تاريخية مجيدة، ولأنها تشعرنا بالقوة والعظمة، وأمة تضم عشرات الملايين من السكان، وتمتد بقعتها على آلاف الكيلومترات لا شك وأن فكرة العظمة هذه والأمجاد التاريخية هي التي اجتذبت أول مرة شباب إفريقيا الشمالية إلى التغني بالوحدة والهتاف لها.
وقد أخذ هذا المظهر العاطفي في بعض الأحيان شكلا قويا مروعا يذكر بالملاحم التاريخية الكبرى المليئة بمواقف البطولة والاستماتة، ولنقتصر في هذا الباب على ذكر يومين لهما شأن في تاريخ المغرب العربي وهما 20 غشت 1955 بالجزائر و 22 أكتوبر 1956 بمكناس، ففي 20 غشت 1955 قم الجزائريون بمظاهرات عظيمة في القطر الشقيق تضامنا مع المغاربة في يوم ذكرى اختطاف ملكهم، وقتل ذلك اليوم آلاف من الجزائريين تحت وابل الرصاص الاستعماري، وفي تاريخ 22 أكتوبر 1956 كانت حوادث مكناس المشهورة التي جاءت كرد فعل من المغاربة على إثر اختطاف الزعماء الجزائريين الخمسة وهم ذاهبون إلى تونس في طائرة مغربية.
ومثل هذه الأحداث الجسيمة كافية للدلالة على أن أبناء المغرب العربي يشعرون شعورا عميقا بوحدتهم وتضامنهم، لكن العواطف، إن كانت ضرورية لتدعيم كل بناء سياسي ذي شأن، فإنها لا تكفي وحدها لضمان تماسك البناء واستمراره، ولذلك فلا بد من اعتبار عوامل أخرى لها ثقلها في الميزان.
وفي قضية كقضية توحيد المغرب العربي، فالذي يجب اعتباره في الأول هو الوضع الدولي والعالمي، وفي هذا المستوى نجد أن تحقيق الفكرة لربما كان ضرورة ملحة لا يمكن الاستغناء عنها، فنحن نرى بالقرب منا دول أوربا الغنية بثرواتها المكدسة، القوية بصناعاتها ومخترعاتها وأنظمتها وثقافتها، لا تأمن على نفسها من أن تبقى منعزلة عن بعضها مشتتة الشمل، وتسعى بكل الوسائل والمحاولات لضم صفوفها وتحقيق وحدتها، وها هي اليوم تسير بخطوات إيجابية نحو إدراك هذه الأهداف، ونرى كذلك في القارات الأخرى أمما كثيرة تسعى للتكتل فيما بينها لتصبح أقوى على مواجهة المشاكل التي تعترضها، فعصرنا عصر تكتل بين الدول وخلق مجموعات كبرى من الشعوب التي كانت بالأمس منفصلة عن بعضها.
وإذا كانت دول قوية متقدمة تشعر بضرورة التوحيد فيما بينها، فكيف بدول ناشئة متخلفة مثل أقطار المغرب العربي؟
إن التوحيد فيما بينها هو الذي سيحفظ كيانها واستقلالها إزاء الخارج، وهو الذي سيضاعف وسائلها وإمكانياتها للدفاع عن نفسها وعن مركزها في عالم اليوم، سيما وقد أصبحت الدول العظمى اليوم لا تحترم إلا الدول التي لها مناعة وقوة، والتي لها ثقل في النظام الدولي، والمتتبعون للأحداث العامية يرون أمثلة كثيرة عن ذلك، فالمغرب العربي ككتلة واحدة يستطيع أن يفرض وجوده في العالم بصورة أقوى مما لو بقي كل بلد من بلدانه يعمل لحسابه الخاص، ويمكننا أن نقول دون أن نخشى أي مغالاة إنه لو كان المغرب العربي اليوم موحدا، لكانت له الزعامة في إفريقيا وفي العالم العربي، دون منازع، وحصوله على مركز ممتاز في هاتين الناحيتين المهمتين من الدنيا سيجعل له هيبة وحرمة لدى سائر دول العالم، وسيمكنه من أن يلعب دورا فعالا في النطاق الأممي.
فإذا نظرنا الآن إلى الموضوع في مستوى الوضع الداخلي لدى دول المغرب العربي، فإننا لا نلاقي أية صعوبة ولا نصطدم بأية عقبة، بل إننا لا نجد في طريقنا إلا المشجعات، فنحن لسنا بإزاء شعوب مختلفة في أرومتها وعقليتها وثقافتها ولغتها، بل إنه في الحقيقة شعب واحد من الغرب إلى الشرق يتكلم لغة واحدة، وله عادات وتقاليد متشابهة، وهو شعب يتكون من سلالتين عربية وبربرية، وذلك وضع له أهميته، فدول أوربا التي تنشد الاتحاد تختلف في كل شيء: فهناك اللاتيني وهنالك الجرماني، وهنالك السكندنافي، وهناك السلافي، وكل دولة تعتز بقوميتها وحضارتها وثقافتها، بحيث سيصعب على تلك الدول، إن لم نقل يستحيل أن تندمج بعضها في بعض.
أما في المغرب العربي، فمشاكل الاختلاف لا توجد، بحيث أن التونسي ينتقل إلى المغرب فلا يشعر بأنه غير وطنه، كما أن المغربي لا يجد نفسه غريبا في تونس، وتلك وضعية لها فوائد جمة، إنها أولا ستسهل الاتصال بين أبناء المغرب العربي، وغير خاف أن اختلاف اللغات والعقليات يقف حاجزا دون تفاهم الشعوب وتقاربها، كما أن تلك الوضعية، من جهة ثانية، ستساعد على حل سائر المشاكل الإدارية وتكون عامل توحيد للأنظمة والقوانين المعمول بها في كل من أقطار المغرب العربي.
لكن بناء عظيما مثل توحيد المغرب العربي لا يمكن أن يثبت ويرسخ إلا إذا كانت له أسس اقتصادية.
ونحن إذا نظرنا إلى توحيد المغرب العربي في المستوى الاقتصادي نجد هنالك مشجعات كثيرة منذ البداية، فهنالك مواد فلاحية ومعدنية تكون ثروة ضخمة قابلة للاستغلال والتحويل والتنمية، وهي في الحقيقة رأس مال المغرب العربي، وهنالك شبكة صالحة للطرقات والسكك الحديدية والموانئ تسهل بكثير التبادل بين أقطار المغرب العربي كما تسهل عليها التبادل مع الخارج، وهناك أنواع من الطاقة التي لا يمكن بدونها تأسيس صناعات عصرية كبرى، ولنذكر منها الكهرباء والفحم والبترول والغاز، على أن إحصاء المواد ما زال لم يتم في إفريقيا الشمالية وما زالت الأبحاث جارية عن الإمكانيات الموجودة في كل القطاعات، بحيث أنه لا يمكن الخروج من الآن بقول نهائي في الموضوع.
ومع ذلك، فإن المعلومات المتوفرة من الآن تخول للاقتصاديين أن يقدموا نظريات مبنية على أسس حقيقية معقولة، وأول ملاحظة يمكن أن نبديها في هذا الصدد هي، كما ذكرنا في الأول، أن دول المغرب العربي متخلفة من الوجهة الاقتصادية، والدولة المتخلفة يصعب عليها اليوم أن تتمتع باستقلال اقتصادي حقيقي إن هي بقيت منعزلة، فكلما حاولت الخروج من وضعيتها تجد نفسها مضطرة للمساعدة الخارجية ولجلب رؤوس الأموال الأجنبية، وهذه المساعدات يستحيل عليها أن تحرزها بدون مقابل، بحيث أن تلك الدولة تجد نفسها في النهاية ملزمة برهن جزء من سيادتها إن أرادت المحافظة على شيء من التوازن في اقتصادها.
فإذا أمكن لدولة متخلفة كهذه أن تدخل في وحدة اقتصادية مع دول متخلفة مثلها، فإنها ستصبح أقوى على مواجهة مشاكل التخلف، وهذه ملاحظة يمكن تطبيقها على المغرب العربي.
فالمغرب العربي، إذا تكون كوحدة اقتصادية متماسكة، سيستفيد من جهتين: من جهة علاقاته مع الدول الرأسمالية ومن جهة إنمائه الاقتصادي والزيادة في دخله القومي.
فإذا نظرنا إلى علاقات الدول الرأسمالية الكبرى، نجد أنه باتحاده ستصبح له مكانة أكبر لدى هذه الدول، وبالتالي سيحصل على مساعدات هامة مع شروط خفيفة، ذلك أن تلك الدول ستحرص على صداقة المغرب العربي، نظرا لموقعه الجغرافي ولمركزه في القارة الإفريقية وتأثيره عليها.
ثم إن الدول الرأسمالية المعروفة بسياستها المتقلبة ستفقد أمام اتحاد المغرب العربي كل إمكانيات المراوغة والتلاعب واستغلال الخلافات الطارئة، لأنها ستجد نفسها أمام وحدة متلاحمة قوية، فلا بد لها إذن من أن تتفاهم معها على أسس جدية.
يضاف إلى كل هذا أن المغرب العربي سيكون سوقا تجارية يقطن بها زهاء الثلاثين مليون نسمة، ولربما تضاعف هذا العدد بعد مرور جيل واحد، وهو بهذه الصورة سيغري كثيرا من الدول بالتبادل معه والتعاون على أسس حرة سليمة.
ومن جهة أخرى، فهناك حادثة اقتصادية هامة ستضطر دول المغرب العربي لا محالة إلى السعي من أجل توحيدها الاقتصادي، ذلك هو تأسيس السوق الأوربية المشتركة، الذي سيخلق تعاونا وتض