أهمية الفقه في حياة الإنسان
ربما يتساءل البعض عن الفقه و ضرورته وهم يرون أنّ مطالب الدين أكثرها معلومة، وهي: الصوم والصلاة والحج والأخلاق الحسنة... الخ، ومع وضوح هذه المطالب تنتفي الحاجة إلى مؤسسات دينية، وعلوم شرعية، وعلماء مختصين في الفقه والاستنباط. وربما أضاف البعض قائلاً: إنّ وجود الفقه أدى إلى تعقيد الشريعة وغموضها وظهور الاختلافات فيها، والأفضل الاكتفاء بما هو معلوم من أحكام الشريعة وحذف الفقه عنها. والجواب هو أن نقول:
1- إنّ منطق الدين هو منطق التبعية لله سبحانه وتعالى في كل ما يأمر به وينهى عنه من أُمور. وفي مثل مسألتنا هذه لا بدّ لنا من مراجعة الله سبحانه وتعالى بمراجعة كتابه وسنّة نبيّه لننظر: هل أنّه أمر بالاكتفاء بالأصول المعلومة من الشريعة؟ وهل نهى عن الخوض في الفقه؟ فإننا لا نأخذ ديننا من كلّ قائل، وإنّما من الكتاب والسنّة الشريفة. وهذا واضح في قوله تعالى: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾.
ونذكر أنّ الفقه بالشيء غير العلم به، حيث أنّ الفقه هو إدراك اللوازم المترتّبة على العلم بشيء معيّن، كما في مثال العلم بطلوع الشمس وإدراك حلول النهار بواسطة هذا العلم، ومعنى ذلك أن الآية لا تطالب بالعلم بأصول الشريعة، وكأنّها تعتبر ذلك أمراً بديهياً، بل تطالب بما هو أكثر وهو التفقه بالشريعة، أي التوصل إلى اللوازم المستبطنة الّتي لم يرد التصريح بها في الكتاب والسنّة. وإذا جئنا إلى سنّة النبي (ص) وجدناه يقول: «إذا أراد الله بعبد خيراً فقّهه في الدين». إذن فالكتاب العزيز والسنّة الشريفة يأمران بالفقه ويدعوان إليه.
2 - إنّ الاكتفاء بأصول الشريعة أمر غير ممكن، فمن تلك الأصول - مثلاً - حرمة الركون للظالم، ولكننا في زمان كزماننا هذا نحتاج إلى من يبيّن لنا وبشكل تفصيلي حكم التعاطي مع الدول، وتكاليفنا في مواجهة الأنظمة الاستعمارية المدعية أنها تعمل على نشر الديمقراطية، والحرية، والعاملة على مساعدة الدول الفقيرة في ميادين التنمية المختلفة، والالتفات إلى الفروقات بين الأنظمة القائمة على النظرية الميكيافيلية القائلة إن الغاية تبرر الوسيلة، والأنظمة القائمة على أساس منظومة القيم الإنسانية التي أوصى بها الباري عز وجل.
كما أن علم الفقه يساعد على تبيان أحكام المسائل التي تظهر أهمية نظم الأمر ليعمل بها المكلفون لما فيه براءة الذمة. من معرفة ما يترتب على مخالفة قوانين السير مثلاً، أو قوانين التجارة والعمليات المالية المعقدة هذه الأيام.
وفي الوقت نفسه نريد الحكم في مسالة استعمال وسائل منع الحمل - مثلاً - هل أنّها جائزة أم لا؟ ومسالة حرمة قتل النفس، أي منها يصدق عليه عنوان قتل النفس المحترمة، وأي منها لا يصدق عليه ذلك؟.. ومن تلك الأصول حرمة الربا وحلّية البيع. ولكن من الّذي يعين حكم المعاملات المستحدثة بعد زمان التشريع، وأيّ منها ربوية وأيّ منها غير ربوية؟. وهكذا آلاف الأمثلة العملية الّتي يحتاج فيها الإنسان إلى الفقه لاستنباط حكمها.
3- إنّ أصول الشريعة عبارة عن أمور كليّة إجمالية عامة، والاكتفاء بها يعني تحويل الدين إلى مجرد وصايا يحسن الأخذ بها، والاكتفاء به كطقوس خالية من أي هدف. ولا تدفع الإنسان ليكون حاملاً لقضايا تخصه وتخص المجتمع. وعدم إمكانية ظهوره كنظام اجتماعي شامل، ومحل الفقه من الدين محل المواد القانونية المنظمة لحياة الإنسان، والقانون المدني هو من الأصول العامة الّتي توضع في بداية دستور كل بلد من البلدان، فإنّ في بداية كل دستور مجموعة من الأصول العامة، وبعد الأصول العامة تأتي مواد قانونية تفصّل المراد من كل أصل من تلك الأصول، ثم يأتي دور مجلس النواب فيضع التفصيلات لكل مادة قانونية مشرعة. ولو بقيت الأصول العامة وحدها كأصل صيانة الحرية والكرامة للإنسان مثلاً، دون مواد قانونية تفصّل المراد منها تصبح حينئذٍ مجرد وصايا أخلاقية يحسن للناس الأخذ بها، ولا تكون أساساً لنظام اجتماعي شامل.
وهكذا الأمر بالنسبة إلى الشريعة، فإنّ الاكتفاء بأصولها فقط يجعل المكلف في حيرة من أمره في أكثر الأمور الفردية والسياسية الاجتماعية.
4 - إنّ الاختلاف ظاهرة طبيعية في حياة البشر، وهي في حد نفسها ليست مستقبحة، فقد تكون حسنة إذا كانت وسيلة لإغناء الفكر والحركة الفكرية في المجتمع، وقد تكون قبيحة إذا كانت طريقاً للتنازع، فالأطباء والمهندسون وعلماء القانون والفلاسفة وغيرهم يختلفون فيما بينهم في أكثر الموضوعات الّتي يختصون بها، وقد وضع الفقه أمام الناس الحل لمشكلة الاختلاف بين الفقهاء، إذ على المكلف تقليد الأعلم من الفقهاء على ما هو المشهور بينهم، أو العمل بالاحتياط بعد متابعة فتاوى الجميع ليأخذ بأحوطها.
5- إنّ الفقه هو العنصر الضامن لخلود الشريعة واستمرارها باستمرار الزمان، باعتبار أنّ وظيفة الفقيه هي إنّه يقوم بدور استنباط صورة تنظيمية كاملة لحياة الفرد والمجتمع في زمانه، في ضوء الكتاب العزيز والسنّة الشريفة، بحيث تكون حياة الفرد والمجتمع في هذه الصورة حياة عصرية مطابقة للشروط العصرية الصحيحة من جهة، وشرعية مطابقة لما أمر الله به في شريعته من جهة ثانية، وحينئذٍ فانتفاء الفقه يعني انحصار الإسلام بالماضي وعجزه عن التواصل مع الزمن، وبالتالي انتفاء خلوده. ليبقى حاضرا في التصدي لكل الأمور المستجدة.
6- إنّ الإنسان في حياته الدنيوية يحتاج إلى نظام اجتماعي سياسي يعيش في ظلّه، وهذا النظام إما أن يبنى على أساس تبعية الإنسان لنفسه المعبر عنه في الاصطلاح الغربي الحديث بالليبرالية (شكل من أشكال الأنظمة الوضعية)، وإما أن يبنى على أساس تبعية الإنسان لله سبحانه وتعالى، من خلال الشرائع التي جاء بها الأنبياء باعتبارها (الأنظمة الإلهية) ومعلوم أنّ تبعية الإنسان لنفسه هي تبعية الناقص للناقص، فلا تثمر كمالاً للإنسان، بل تؤدي إلى تعميق النقص وترسيخه في حياته، فإذا ما نظرنا في الظلم الذي تعيشه شعوب العالم الثالث، من احتلال مباشر أو من خلال نخب وعائلات أوجدتها الأنظمة المستقوية بالحديد والنار، وكذلك إذا ما نظرنا إلى انحطاط الأسرة، وتدهور الأخلاق، وشيوع الجريمة، وتحمل مسؤولية اندلاع الحروب المدمرة المتواصلة، وانتشار الأمراض النفسية، وازدياد حالات الانتحار، وتفشي الطلاق في الغرب إلا شواهد معبّرة عن ذلك النقص الّذي يعتري الحياة المعاصرة.
ومن هنا تظهر حاجة الإنسان إلى نظام اجتماعي سياسي جديد يقوم على أساس جديد هو تبعية الإنسان لله سبحانه وتعالى، بعيداً عن التبعية للإنسان غير الكامل، بوصفها تبعية الناقص إلى الكامل المطلق، التي توجّه حياة الإنسان نحو جهة الكمال وتسوقها باتّجاهه. لا تبعية من عنده نقص لمن يماثله في الضعف وليس كاملاً. فالنظام الوضعي يتأثر بالخلفية النفسية والتربوية والمحيط المؤثر، من لا يرى مكانة للمرأة يكون مجحفا بحقها ومن يرى العكس يعطيها أكثر من حقها فيؤثر ذلك على التوازن الاجتماعي. وهكذا في القضايا الأخرى.