يرتبط الغير في التداول الفلسفي بالآخرين من الناس و يقابله مفهوم الآخر الذي يشكل الغير مجرد مستوى من مستويات وجوده، و تعود الجذور الفلسفية لهذا المفهوم إلى الفلسفة اليونانية التي تناولته في إطار انطولوجي عام ارتبط أساسا بإشكالية الهوية و الاختلاف أو الوحدة و الكثرة، لان كل موجود-بما فيه الإنسان- يكون نفسه بالنسبة لذاته و غيرا بالقياس إلى الآخرين، و بهذا المعنى يتحدد الغير بالسلب لكنه سلب لا ينفي ضرورة العيش ضمن مجال مشترك يومي تتبادل فيه الذوات الإنسانية علاقات التأثير و التأثر، و على هذا المستوى يبدو الوجود مع الغير تهديدا للذات وسلبا لممكناتها ووجودها الخاص من جهة ، لكنه وجود ضروري بالنسبة لها لكي تحقق وعيها بذاتها و تحافظ على بقائها من جهة أخرى ، وفي سياق هذا التقابل يندرج السؤال الذي بين أيدينا ، إذ يتأطر ضمن الإشكالية العامة لمجزوءة الوضع البشري و تحديدا ضمن مفهوم الغير بوصفه مفهوما مركزيا في ارتباطه بمفهوم الشخص وما يطرحه هذا الارتباط من إشكالات فلسفية ترتبط هنا بالإشكالية الفلسفية لوجود الغير، وهي الإشكالية التي يمكن التعبير عنها كالتالي:
- ماذا يشكل وجود الغير بالنسبة لذاتي؟
- وهل يمكن اعتبار الوجود معه سلبا لوجودي الخاص و تهديدا له؟ وإن كان الأمر كذلك فما مظاهر هذا التهديد؟
- ألا يمكن اعتبار الوجود مع الغير إغناء لتجربة الذات و شرطا ضروريا لوجودها ووعيها بذاتها؟
يتعلق الرهان الأساسي في هذا السؤال بطبيعة وجود الغير و ما يشكله هذا الوجود بالنسبة لذاتي ،وهو ما تعكسه الصيغة الاستفهامية التي طرح بها (هل...؟) و التي تضعنا أمام إمكانيتين للجواب، إما إثباتا و في هذه الحالة يكون وجود الغير تهديدا لذاتي و سلبا لوجودي الخاص و هذا ما يعلنه منطوق السؤال، و إما نفيا و هنا يصبح وجود الغير إغناء للذات و إثراء لتجربتها في العالم ، وقد صيغ هذا السؤال من خلال مفاهيم أساسية كمفهوم الوجود مع الغير الذي يحيل إلى الحياة الاجتماعية أو الوجود المشترك اليومي ثم مفهوم الذات التي ترتبط فلسفيا بالأنا بما هي واقع ميتافيزيقي كامن وراء الصفات النفسية و الجسدية المتغيرة للشخص، و أخيرا مفهوم التهديد الذي يفيد هنا معاني السلب و النفي الذي يمارسه الغير على الانا في إطار الوجود المشترك اليومي و هذا ما يراهن عليه السؤال الذي ينفتح في المستوى الأول على أطروحة مفترضة مفادها أن الوجود مع الغير يشكل تهديدا لذاتي و نفيا لممكناتي ووجودي الخاص، فكيف ينبغي أن نفهم ذلك؟
إن الغير ،من حيث كونه أنا آخر،يتجلى لذاتي ضمن علاقة تعايش معطاة و يحيل بشكل دائم على إمكانية التماهي و التطابق مع الآخرين، لأن الانسان ليس كيانا ميتافيزيقيا و لا وجودا باطنيا ساكنا و مطابقا لذاته داخل عزلة مطلقة عن العالم و الآخرين، بل هو وجود دينامي يشكل ذاته باستمرار بانفتاحه على الغير و التفاعل معه ضمن المجال المشترك اليومي الذي يشكل فضاء لتبادل الخبرات و علاقات التأثير و التأثر بين الذوات ،ويترتب عن هذا الوجود المشترك فقدان الذات لما يميزها و ما تنفرد به ،لأن سلطة "الهم" تمارس تأثيرا على الأنا فتفرغها من وجودها الخاص و تخضعها لسلطة الجماعة التي تجعل الأفراد متشابهين و يتصرفون دائما وفق المعايير المحددة سلفا في المسلك الإجتماعي العام و التي لا يملك الشخص حيالها إلا الخضوع لسلطتها الجبارة و القاهرة و لتوضيح ذلك يمكن أن نستأنس بموقف مارتن هايدغر الذي يعتبر أن الوجود مع الغير يمارس على الموجود- هنا (الأنا)، باعتباره وجودا فرديا خاصا، هيمنة خفية وسلطة تجعله غير مطابق لذاته، بحيث يفرغه من كينونته الخاصة، ويعمل على تذويبه كليا في مجال الوجود المشترك، فيفقده بذلك كل ما يميزه وما ينفرد به، ليصبح جزءا من"الهم" "on "، وشبيها بالآخرين، وليس شخصا متعينا، وكأنه لا أحد، لأن الوجود مع الغير، باعتباره وجودا مشتركا، يذيب كليا "الموجود- هنا" في نمط وجود الغير فيفقده كل ما يميز هويته كاختلاف، ويجعله يتلاشى تدريجيا وينصهر في عالم "النحن"،و يوضح هايدغر تصوره هذا من خلال مجموعة من الأمثلة ( كاستخدامنا لوسائل النقل العمومية و استفادتنا من الخدمات الإعلامية ) و التي تثبت أن كل واحد منا يشبه الآخر لان سلطة الغير الديكتاتورية أفرغت كليا الذات من وجودها الخاص و أفقدتها كل ما يميزها و ما تنفرد به ، فإلى أي حد يمكن إذن الإقرار بهذا التصور؟ ألا يمكن اعتبار الوجود مع الغير إغناء لتجربة الذات و شرطا ضروريا لوجودها؟
يؤكد التصور السابق أن العلاقة الانطولوجية بين الأنا و الغير تنحصر فقط في مستوى التهديد الذي يمارسه الثاني على الأول، و بهذا اغفل هذا الموقف الفلسفي كل ايجابيات الوجود المشترك معتبرا الغير مصدر تهديد دائم بالنسبة للانا وهو ما يتنافى وواقع الحياة اليومية الذي يثبت أن الوجود مع الغير لا يكون سلبيا إلا حينما ينعدم فيه الحد الأدنى من التبصر الأخلاقي الذي يمكن أن يؤسس لعلاقة ايجابية بين الطرفين، و هذا ما ذهب إليه ايمانويل كانط الذي اعتبر الصداقة- كشكل من أشكال العلاقة مع الغير- مثالا أخلاقيا للتعاطف و التواصل بين الناس غايته المثلى تحقيق خير الصديقين اللذين جمعت بينهما إرادة طيبة واجبة أخلاقية و نبيلة تقوم على أساس توازن عناصر الواجب الأخلاقي بعيدا عن كل منفعة مباشرة أو مصلحة فردية خاصة. إن الصداقة بهذا المعنى اتحاد بين شخصين تجمع بينهما مشاعر الحب و الاحترام المتبادل الذي يجعل حب الذات ينصهر في عالم "النحن" لكن دون القضاء على الاختلافات و التمايزات ، وهو ما أكده ميرلوبونتي من خلال تحليله الفينومينولوجي لعملية التواصل الذي اثبت أن العلاقة مع الغير لا تشيئه و إن النظرة لا تحوله إلى موضوع ولا تنفيه إلا إذا كانت نظرة نافية لإنسانيته بإصرار مسبق، و من ثم يطرح ميرلوبونتي تجربة التواصل كتجربة غنية تمكن الأنا من الانفتاح على الغير و التعاطف معه و بالتالي تجاوز تلك البنية العدمية الفاصلة بينهما، وبهذا المعنى لا يغدو الاختلاف بين الذوات اختلافا طبيعيا بقدر ما هو اختلاف إنساني لا يلغي التقاطع ضمن مجال بينذاتي مشترك يتبادل فيه الأنا و الغير كل أشكال التعاطف و المشاركة الوجدانية المؤسسة لفكرة الإنسان في بعده الكوني ، غير أن هناك من يشكك في مشروعية هذه التصورات معتبرا أن إشكالية الوجود مع الغير لا يمكن الحسم فيها بالشكل الذي تصوره هايدغر و ميرلوبونتي، لكونها إشكالية فلسفية معقدة يتداخل فيها التهديد بالإغناء، و من ثم يجب مقاربتها من منظور أكثر دقة و شمولية، و هو ما حاول سارتر فعله عندما اعتبر الوجود مع الغير تهديدا للذات و نفيا لها وسلبا لممكناتها الخاصة شانه في ذلك شان هايدغر لكنه يضيف بالمقابل أن علاقة الأنا بالغير لا تقف عند مستوى التهديد فقط بل تتجاوز ذلك إلى الإغناء أيضا لان الغير- و إن كان يتملكني بنظرته في صميم فعلي فيحولني إلى موضوع مستلب – فهو مع ذلك شرط أساسي لوجودي و لمعرفتي بنفسي، وقد وضح سارتر هذا التصور المزدوج للوجود مع الغير انطلاقا من مثال النظرة التي اعتبرها بمثابة البنية الأساسية لعلاقة الأنا بالغير، وتجسيدا لعلاقة الصراع بينهما. إذ في تجربة الخجل أو الكبرياء مثلا يشكل حضور الغير تشييئا للأنا وشلا لحريتها وتجميدا لممكناتها الخاصة واستلابا لعفويتها وتلقائيتها، بحيث تصبح موضوعا مستلبا يعيش على حرية غير حريته،لكنها حرية ضرورية من اجل أن تعي كل ذات ذاتها بوصفها وجودا حرا متعاليا، و تأكيدا لنفس الموقف التوفيقي يعتقد هيجل بدوره أن وجود الغير شرط أساسي لوعي الذات بذاتها، فالأنا يوجد أولا وجودا مباشرا، أي وجودا طبيعيا حيوانيا، منغمسا في الحياة العضوية، وكل ما يكون متيقنا منه في هذا النمط من الوجود هو يقينه الذاتي، ما دام أنه مستقل عن الآخر، الذي لا يشكل بالنسبة إليه إلا موضوعا مثل باقي الموضوعات والأشياء. لكن الأنا يتجاوز هذا الوجود المباشر عبر عملية تقديم الذات أمام الغير، لأنه لا يسمو بيقين وجوده إلى مستوى الحقيقة إلا من خلال اعتراف هذا الغير به. غير أن هذا الاعتراف لا يمنح بشكل سلمي، وإنما يتم عبر صراع مرير يخاطر فيه الطرفان بحياتهما حتى الموت. لكن ما دام الموت الفعلي لا يحقق النتيجة المتوخاة، وجب استسلام أحد الطرفين إيثارا للحياة على الموت وبموجب هذا الاستسلام يتحول احدهما إلى سيد و الآخر إلى عبد، ومن دون هذا الصراع الذي يهددهما معا ما كان لأي كائن بشري أن يحقق وعيه بذاته.
يبدو مما سبق أن الغير يطرح نفسه كضرورة انطولوجية بالنسبة للانا، غير أن الوجود معه في الحياة اليومية المشتركة يؤسس لسلسلة من العلاقات المعقدة و المتداخل يصعب حصرها في جانب واحد دون آخر، إذ في الوقت الذي دافع فيه البعض عن التهديد و اعتبره السمة المميزة للوجود مع الغير(هايدغر) نجد آخرين اعتبروا هذا الوجود المشترك إغناء للذات سواء من خلال الصداقة في بعدها الأخلاقي ( كانط) أو من خلال تجربة التواصل (ميرلوبونتي) ، غير أن هناك من حاول النظر للوجود مع الغير في بعده الشمولي معتبرا إياه و جودا مزدوجا يستحيل اختزاله في الاغناء فقط أو التهديد فقط ، لان الغير يهددني لكنه في الوقت نفسه شرط أساسي لوجودي و لمعرفتي بنفسي (سارتر و هيجل).