لما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم ثماني سنوات توفي جده عبد المطلب بمكة سنة ٥٧٨م بعد عام الفيل بثماني سنين و له عشر و مائه سنه، و قيل أكثر من ذلك، و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يبكي خلف سريره و دفن بالحجون، جبل بأعلى مكة عنده مدافن أهلها عند قبر جده قُصي، و لما حضرته الوفاة أوصى به إلى عمه شقيق أبيه ((أبي طالب)) و اسمه عبد مناف و عبد الكعبة و كان كريماً لكنه كان فقيراً كثير الأولاد، و كان يرى منه صلى الله عليه و سلم الخير و البركة و يحبه حباً شديداً و لذا لا ينام إلا إلى جنبه و يخرج به متى خرج، و أوصى عبد المطلب إلى أبي طالب بسقاية زمزم وإلى ابنه الزبير بالحكومة و أمر الكعبة.
و في هذه السنة مات حاتم الطائي و كسرى و أنوشروان.
و قد أخرج ابن عساكر عن جلهمة بن عرفطة قال:
قدمت مكة و هم في قحط فقالت قريش: يا أبا طالب أقحم الوادي و أجدب فهلم فاستسق فخرج أبو طالب و معه غلام كأنه شمس دجى تجلت عنه سحابة قتماء حوله أغيلمة (جمع غلام مصغر) فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة و لاذ الغلام بأصبعه (أشار بأصبعه إلى السماء كالمتضرع الملتجئ) و ما في السماء قزعة (قطعة من سحاب) فأقبل السحاب من ههنا وههنا و أغدق و اغدودق (كثر مطره) و انفجر الوادي و أخضب النادي و في ذلك يقول أبو طالب مادحاً النبي صلى الله عليه و سلم:
و أبيض يستسقى الغمام بوجهه ثِمال عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آلِ هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل
(الثمال) بكسر المثلثة الملجأ و الغيث، و قيل: المطعم في الشدة (عصمة للأرامل) أي يمنعهم من الضياع و الحاجة، هذان بيتان من قصيدة طويلة لأبي طالب، و قد شاهد أبو طالب هذا الاستسقاء فنظم هذه القصيدة و قد شاهد مرة أخرى قبل هذه، فروى الخطابي حديثاً فيه أن قريشاً تتابعت عليهم سنو جدب في حياة عبد المطلب فارتقى هو و من حضره من قريش أبا قبيس (بالتصغير اسم الجبل المشرف على مكة) فقام عبد المطلب و اعتضده صلى الله عليه و سلم فرفعه على عاتقه و هو يومئذ غلام فقال أيفع أو قرب ثم دعا فسقوا في الحال، فقد شاهد أبو طالب ما دله على ما قال أعني قوله:
((و أبيض يستسقى الغمام بوجهه)).
و كان الستسقاء في الجاهلية الأولى بخلاف هذه الطريقة فكانوا إذا تتابعت عليهم الأزمات و اشتد الجدب و احتاجوا إلى الأمطار يجمعون بقراً معلقة في أذنابها و عراقيبها السلع و العشر و يصعدون بها إلى جبل وعر ويشعلون فيها النار ويفرقون بينها وبين أولادها ويسوقون البقر إلى ناحية المغرب دون سائر الجهات و تسمى هذه النار التي يشعلونها نار الاستمطار، قال ابن أبي الحديد: و إنما ضرموا النيران في أذناب البقر تفاؤلاً للبرق بالنار و يضجون بالدعاء و التضرع و كانوا يَرَوْن ذللك من الأسباب المتوصل بها إلى نزول الغيث.
كان عبدالله أبو رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو طالب من أم واحدة، و روي أن أبا طالب قال لأخيه العباس: ألا أخبرك عن محمد (صلى الله عليه و سلم) بما رأيت منه؟ فقال: بلى، فقال: إني ضممته إلي فكنت لا أفارقه ساعة من ليل و لا نهار و لا آتمن عليه أحداً، و إني كنت أنومه في فراشي فأمرته ليلة أن يخلع ثيابه و ينام معي فرأيت الكراهة في وجهه لكنه كره أن يخالفني، و قال: يا عماه اصرف بوجهك عني حتى أخلع ثيابي إذ لا ينبغي لأحد أن ينظر إلى جسدي، فتعجبت من قوله و صرفت بصري حتى دخل الفراش فلما دخلت معه الفراش إذا بيني و بينه ثوب، و الله ما أدخلته فراشي فإذا هو في غاية من اللين وطيب الرائحة كأنه غمس من المسك فجهدت لأنظر إلى جسده فما كنت أرى شيئاً و كثيراً ما كنت أفتقده من فراشي فإذا قمت لأطلبه ناداني: ها أنا يا عّم فأرجع و لقد كنت كثيراً ما أسمع منه كلاماً يعجبني و ذلك عند مضي بعض الليل، و كنا لا نسمّي على الطعام و الشراب و لا نحمد بعده و كان يقول في أول الطعام: باسم الله الأحد، فإذا فرغ من طعامه قال: الحمدلله، فتعجبت منه ثم لم أر منه كذبة و لا ضحكاً و لا جاهلية و لا وقف مع صبيان يلعبون.
-من كتاب ((محمد)) صلى الله عليه و سلم تأليف محمد رشيد رضا اعتنى به وحقق أصوله الدكتور محمد شريف الاسكندراني